فصل: ولما فرغ السلطان الملك الناصر

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة **


 ولما فرغ السلطان الملك الناصر

كل من أمر المظفر بيبرس وأصحابه ولم يبق عنده ممن يخشاه إلا سلار ندب إليه السلطان الأمير ناصر الدين محمد ابن أمير سلاح بكتاش الفخري وكتب على يده كتابًا بحضوره إلى مصر فاعتذر سلار عن الحضور إلى الديار المصرية بوجع في فؤاده وأنه يحضر إذا زال عنه‏.‏

فتخيل السلطان من تأخره وخاف أن يتوخه إلى التتارة فكتب إلى قراسنقر نائب الشام وإلى أسندمر نائب حماة بأخذ الطرق على سلار لئلا يتوجه إلى التتار‏.‏

ثم بعث الملك الناصر بالأميرين‏:‏ بيبرس الدوادار وسنجر الجاولي إلى الأمير سلار وأكد عليهما في إحضاره وأن يضمنا له عن السلطان أنه يريد إقامته عنده يستشيره في أمور المملكة فقدما على سلار وبلغاه عن السلطان ما قال فوعدهما أنه يحضر وكتب الجواب بذلك فلما رجعا اشتد قلق السلطان وكثر خياله منه‏.‏

وأما سلار فإنه تحير في أمره واستشار أصحابه فاختلفوا عليه فمنهم من أشار بتوجهه إلى السلطان ومنهم من أشار بتوجهه إلى قطر من الأقطار إما إلى التتار أو إلى اليمن أو إلى برقة‏.‏

فعول على المسير إلى اليمن ثم رجع عن ذلك وأجمع على الحضور إلى السلطان وخرج من الشوبك و عنده ممن سافر معه من مصر أربعمائة وستون فارسًا فسار إلى القاهرة فعندما قدم على الملك الناصر قبض عليه وحبسه بالبرج من قلعة الجبل وذلك في سلخ شهر ربيع الأول سنة عشر وسبعمائة‏.‏

ثم ضيق السلطان على الأمير برلغي بعد رواح الأمير مهنا وأخرج حريمه من عنده ومنع ألا يدخل إليه أحد بأكل ولا شرب حتى أشفى على الموت ويبست أعضاؤه وخرس لسانه من شدة الجوع ومات ليلة الأربعاء ثاني شهر رجب‏.‏

وأما أمر سلار فإنه لما حضر بين يدي الملك الناصر عاتبه عتابًا كثيرًا وطلب منه الأموال وأمر الأمير سنجر الجاولي أن ينزل معه ويتسلم منه مايعطيه من الأموال فنزل معه إلى داره ففتح سلار سربًا تحت الأرض فأخرج منه سبائك ذهب وفضة وجرب من الأديم الطائفي في كل جراب عشرة آلاف دينار فحملوا من ذلك السرب أكثر من حمل خمسين بغلًا من الذهب والفضة ثم طلع سلار إلى الطارمة التي كان يحكم عليها فحفروا تحتها فأخرجوا سبعًا وعشرين خابية مملوءة ذهبًا ثم أخرج من الجواهر شيئأ كثيرًا منها‏:‏ حجر بهرمان زنته أربعون مثقالًا وأخرج ألفي حياصة ذهب مجوهرة بالفصوص وألفي قلادة من الذهب كل قلادة تساوي مائة دينار وألفي كلفتاة زركش وشيئًا كثيرًا يأتي ذكره أيضًا بعد أن نذكر وفاته ومنها‏:‏ أنهم وجدوا له لجمًا مفضضة فنكتوا الفضة عن السيور ووزنوها فجاء وزنها عشرة قناطير بالشامي‏.‏

ثم إن السلطان طلبه وأمر أن يبنى عليه أربع حيطان في مجلسه وأمر ألا يطعم ولايسقى وقيل‏:‏ إنه لما قبض عليه وحبسه بقلعة الجبل أحضر إليه طعامًا فأبى سلار أن يأكل وأظهر الغضب فطولع السلطان بذلك فأمر بألا يرسل إليه طعام بعد هذا فبقي سبعة أيام لا يطعم ولايسقى وهو يستغيث من الجوع فأرسل إليه السلطان ثلاثة أطباق مغطاة بسفر الطعام فلما أحضروها بين يديه فرح فرحًا عظيمًا وظن أن فيها أطعمة يأكل منها فكشفوها فإذا في طبق ذهب وفي الآخر فضة وفي الآخر لؤلؤ وجواهر فعلم سلار أنه ما أرسل إليه هذه الأطباق إلا ليقابله على ما كان فعله معه فقال سلار‏:‏ الحمد لله الذي جعلني من أهل المقابلة في الدنيا وبقي على هذه الحالة اثني عشر يومًا ومات فأعلموا الملك الناصر بموته فجاؤوا إليه فوجدوه قد أكل ساق خفه وقد أخذ السرموجة وحطها في فيه وقد عض عليها بأسنانه وهو ميت وقيل‏:‏ إنهم دخلوا عليه قبل موته وقالوا‏:‏ السلطان قد عفا عنك فقام من الفرح ومشى خطوات ثم خر ميتًا وذلك في يوم الأربعاء الرابع والعشرين من شهر ربيع الآخر سنة عشر وسبعمائة وقيل‏:‏ في العشرين من جمادى الأولى من السنة المذكورة‏.‏

فأخذ الأمير علم الدين سنجر الجاولي بإذن السلطان وتولى غسله وتجهيزه ودفنه بتربته التي أنشأها بجانب مدرسته على الكبش خارج القاهرة بالقرب من جامع ابن طولون لصداقة كانت بين الجاولي و سلار قديمًا وحديثًا‏.‏

وكان سلار أسمر اللون أسيل الخد لطيف القد صغير اللحية تركي الجنس وكان أصله من مماليك الملك الصالح علي بن قلاوون الذي مات في حياة والده قلاوون وكان سلار أميرًا جليلًا شجاعًا مقدامًا عاقلًا سيوسًا وفيه كرم وحشمة ورياسة وكانت داره ببين القصرين بالقاهرة‏.‏

وقيل‏:‏ إن سلار لما حج المرة الثانية فرق في أهل الحرمين أموالًا كثيرة وغلالًا وثيابًا تخرج عن حد الوصف حتى إنه لم يدع بالحرمين فقيرًا وبعد هذا مات وأكبر شهواته رغيف خبز وكان في شونته يوم مات من الغلال ما يزيد على أربعمائة ألف إردب‏.‏

وكان سلار ظريفًا لبيسًا كبير الأمراء في عصره اقترح أشياء من الملابس كثيرة مثل السلاري وغيره ولم يعرف لبس السلاري قبله وكان شهد وقعة شقحب مع الملك الناصر وأبلى في ذلك اليوم بلاء حسنًا وثخنت جراحاته وله اليد البيضاء في قتال التتار‏.‏

وتولى نيابة السلطنة بديار مصر فاستقل فيها بتدبير الدولة الناصرية نحو عشر سنين‏.‏

ومن جملة صدقاته أنه بعث إلى مكة في سنة اثنتين وسبعمائة في البحر المالح عشرة آلاف إردب قمح ففرقت في أهل مكة وكذا فعل بالمدينة‏.‏

وكان فارسًا كان إذا لعب بالكرة لا يرى في ثيابه عرق وكذا في لعب الرمح مع الإتقان فيهما‏.‏

وأما ماخلفه من الأموال فقد ذكرنا منه شيئًا ونذكر منه أيضًا ما نقله بعض المؤرخين‏.‏

قال الجزري‏:‏ وجد ل سلار بعد موته ثمانمائة ألف ألف دينار وذلك غير الجوهر والحلي والخيل والسلاح‏.‏

قال الحافظ أبو عبد الله الذهبي‏:‏ هذا كالمستحيل وحسب زنة الدينار وجمله بالقنطار فقال‏:‏ يكون ذلك حمل خمسة آلاف بغل وما سمعناه عن أحد من كبار السلاطين أنه ملك هذا القدر ولا سيما ذلك خارج عن الجوهر وغيره‏.‏

انتهى كلام الذهبي‏.‏

قلت‏:‏ وهو معذور في الجزري فإنه جازف وأمعن‏.‏

وقالى ابن دقماق في تاريخه‏:‏ وكان يدخل إلى سلار في كل يوم من أجرة أملاكه ألف دينار‏.‏

وحكى الشيخ محمد بن شاكر الكتبي فيما رآه بخط الإمام العالم العلامة علم الدين البرزالي قال‏:‏ رفع إلي المولى جمال الدين بن الفويرة ورقة فيها قبض أموال سلار وقت الحوطة عليه في أيام متفرقة أولها يوم الأحد‏:‏ ياقوت أحمر وبهرمان رطلان‏.‏

بلخش رطلان ونصف‏.‏

زمرد ريحاني وذباب تسعة عشر رطلًا‏.‏

صناديق ضمنها فصوص ستة‏.‏

ما بين زمرد وعين الهر ثلاثمائة قطعة كبار‏.‏

لؤلؤ مدور من مثقال إلى درهم ألف ومائة وخمسون حبة‏.‏

ذهب عين مائتا يوم الاثنين‏:‏ فصوص مختلفة رطلان ذهب عين خمسة وخمسون ألف دينار دراهم ألف ألف درهم‏.‏

مصاغ وعقود ذهب مصري أربع قناطير‏.‏

فضيات طاسات وأطباق وطشوت ست قناطير‏.‏

يوم الثلاثاء‏:‏ ذهب عين خمسة وأربعون ألف دينار دراهم ثلاثمائة ألف درهم وثلاثون ألف درهم‏.‏

قطزيات وأهله وطلعات صناجق فضة ثلاثة قناطير‏.‏

يوم الأربعاء‏:‏ ذهب عين ألف ألف دينار دراهم ثلاثمائة ألف درهم‏.‏

أقبية بفرو قاقم ثلاثمائة قباء‏.‏

أقبية حرير عمل الدار ملونة بفرو سنجاب أربعمائة قباء سروج ذهب مائة سرج‏.‏

ووجد له عند صهره أمير موسى ثمانية صناديق لم يعلم ما فيها حملت إلى الدور السلطانية وحمل أيضًا من عند سلار إلى الخزانة تفاصيل طرد وحش وعمل الدار ألف تفصيلة‏.‏

ووجد له خام السفر ست عشرة نوبه كاملة‏.‏

ووصل له مما كان أخذه صحبته لما توجه إلى الشوبك ذهب مصري خمسون ألف دينار ودراهم أربعمائة ألف درهم وسبعون ألف درهم وخلع ملونة ثلاثمائة خلعة وخركاه كسوتها أطلس أحمر معدني مبطن بأزرق مروزي أوستر بابها زركش ووجد له خيل ثلاثمائة فرس ومائة وعشرون قطار بغال ومائة وعشرون قطار جمال‏.‏

هذا خارج عما وجد له من الأغنام والأبقار والجواميس والأملاك والمماليك والجواري والعبيد‏.‏

ودل مملوكه على مكان مبني في داره فوجدوا حائطين مبنيين بينهما أكياس ما علم عدتها وفتح مكان آخر فيه فسقية ملآنة ذهبًا منسبكًا بغيرأكياس‏.‏

قلت‏:‏ ومما زاد سلار من العظمة أنه لما ولي النيابة في الدولة الناصرية محمد بن قلاوون وصار إليه وإلى بيبرس الجاشنكير تدبير المملكة حضر إلى الديار المصرية الملك العادل زين الدين كتبغا الذي كان سلطان الديار المصرية وعزل بحسام الدين لاجين ثم استقر نائب حماة فقدم كتبغا إلى القاهرة وقبل الأرض بين يدي الملك الناصر محمد بن قلاوون ثم خرج من عنده وأتى سلار هذا ليسلم عليه فوجد سلار راكبًا وهو يسير في حوش داره فنزل كتبغا عن فرسه وسلم على سلار و سلار على فرسه لم ينزل عنه وتحادثا حتى انتهى كلام كتبغا وعاد إلى حيث نزل بالقاهرة فهذا شيء لم يسمع بمثله انتهى‏.‏

وبعد موت سلار قدم على السلطان البريد بموت الأمير قبجق المنصوري نائب حلب وكان الملك الناصر عزل أسندمر كرجي عن نيابة حماة وولى نيابة حماة للملك المؤيد عماد الدين إسماعيل فسار إليه المؤيد من دمشق فمنعه أسندمر فأقام المؤيد بين حماة ومصر ينتظر مرسوم السلطان فاتفق موت قبجق نائب حلب فسار أسندمر من حماة إلى حلب وكتب يسأل السلطان في نيابة حلب فأعطاها ثم عزل السلطان بكتمر الحسامي الحاجب عن نيابة غزة وأحضره إلى القاهرة وولى عوضه على نيابة غزة الأمير قطلقتمر وخلع على بكتمر الحاجب بالوزارة بالديار المصرية عوضًا عن فخر اللدين عمر بن الخليلي‏.‏

ثم قدم البريد بعد مدة لكن في السنة بموت الأمير الحاج بهادر الحلبي نائب طرابلس فكتب السلطان بنقل الأمير جمال الدين آقوش الأفرم من نيابة صرخد إلى نيابة طرابلس عوضًا عن الحاج بهادر المذكور فسار إليها وفرح بموت الحاج بهادر فرحًا عظيمًا فإنه كان يخافه ويخشى شره‏.‏

ثم التفت السلطان بعد موت قبجق والحاج بهادر المذكور إلى أسندمر كرجي وأخرج تجريدة من الديار المصرية وفيها من الأمراء كراي المنصوري وهو مقدم العسكر وسنقر الكمالي حاجب الحجاب وأيبك الرومي وبينجار وكجكن وبهادر آص في عدة من مضافيهم من أمراء الطبلخاناه والعشرات ومقدمي الحلقة وأظهر أنهم توجهوا لغزو سيس وكتب لأسندمر كرجي بتجهيز آلات الحصار على العادة والاهتمام في هذا الأمر حتى يصل إليه العسكر من مصر‏.‏

وكتب الملك الناصر إلى المؤيد عماد الدين إسماعيل صاحب حماة بالمسير مع العسكر المصري‏.‏

ثم خرج الأمير كراي من القاهرة بالعساكر في مستهل ذي القعدة سنة عشر وسبعمائة وأسر إليه السلطان ما يعتمده في أمر كرجي‏.‏

وبعد خروج هذا العسكر من مصر توحش خاطر الأمير بكتمر الخوكندار نائب السلطنة من الملك الناصر وخاف على نفسه واتفق مع الأمير بتخاص المنصوري على إقامة الأمير مظفر الدين موسى ابن الملك الصالح علي بن قلاوون في السلطنة والاستعانة بالمماليك المظفرية وبعث إليهم في ذلك فوافقوه‏.‏

ثم شرع النائب بكتمر الجوكندار في استمالة الأمراء ومواعدة المماليك المظفرية الذين بخدمة الأمراء على أن كل طائفة تقبض على الأمير الذي هي في خدمته في يوم عينه لهم ثم يسوق الجميع إلى قبة النصر خارج القاهرة ويكون الأمير موسى المذكور قد سبقهم هناك‏.‏

فدبروا ذلك حتى انتظم الأمر ولم يبق إلا وقوعه فنم عليهم إلى الملك الناصر بيبرس الجمدار أحد المماليك المظفرية‏.‏

وهو ممن اتفق معهم بكتمر الجوكندار أراد بذلك أن يتخذ يدًا عند السلطان الملك الناصر بهذا الخبر فعرف خشداشه قراتمر الخاصكي بما عزم عليه فوافقه‏.‏

وكان بكتمر الجوكندار قد سير يعرف الأمير كراي المنصوري بذلك لأنه كان خشداشه وأرسل كذلك إلى قطلوبك المنصوري نائب صفد ثم إلى قطلقتمر نائب غزه فأما قطلوبك وقطلقتمر فوافقاه وأما كراي فأرسل نهاه وحذره من ذلك فلم يلتفت بكتمر وتم على ما هو عليه‏.‏

فلما بلغ السلطان هذا الخبر وكان في الليل لم يتمهل وطلب الأمير موسى إلى عنده وكان يسكن بالقاهرة فلما نزل إليه الطلب هرب‏.‏

ثم استدعى السلطان الأمير بكتمر الجوكندار النائب وبعث أيضًا في طلب بتخاص وكانوا إذ ذاك يسكنون بالقلعة فلما دخل إليه بكتمر أجلسه وأخذ يحادثه حتى أتاه المماليك بالأمير بتخاص فلما رآه بكتمر علم أنه قد هلك فقيد بتخاص وسجن وأقام السلطان ينتظر الأمير موسى فعاد إليه الجاولي ونائب الكرك وأخبراه بفراره فاشتد غضبه عليهما‏.‏

وماطلع النهار حتى أحضر السلطان الأمراء وعرفهم بما قد وقع ولم يذكر اسم بكتمر النائب‏.‏

وألزم السلطان الأمير كشدغدي البهادري والي القاهرة بالنداء على الأمير موسى ومن أحضره من الجند فله إمرته وإن كان من العامة فله ألف دينار‏.‏

فنزل كشدغدي ومعه الأمير فخر الدين إياز شاذ الدواوين وأيدغل شقير وسودي وعدة من المماليك وألزم السلطان سائر الأمراء بالإقامة بالقاعة الأشرفية من القلعة حتى يظهر خبر الأمير موسى‏.‏

ثم قبض السلطان على حواشي الأمير موسى وجماعته وعاقب كثيرًا منهم‏.‏

فلم يزل الأمر على ذاك من ليلة الأربعاء إلى يوم الجمعة ثم قبض على الأمير موسى المذكور من بيت أستادار الفارقاني من حارة الوزيرية بالقاهرة وحمل إلى القلعة فسجن بها‏.‏

ونزل الأمراء إلى دورهم وخلي عن الأمير بكتمر النائب أيضًا ونزل إلى داره ورسم السلطان بتسمير أستادار الفارقاني ثم عفا عنه وسار إلى داره‏.‏

وتتبع السلطان المماليك المظفرية وفيهم بيبرس الجمدار الذي نم عليهم وعملوا في الحديد وأنزلوا ليسمروا تحت القلعة وقد حضر نساؤهم وأولادهم وجاء الناس من كل موضع وكثر البكاء والصراخ عليهم رحمة لهم والسلطان ينظر فأخذته الرحمة عليهم فعفا عنهم فتركوا ولم يقتل أحد منهم فكثر الدعاء للسلطان والثناء عليه‏.‏

وأما أمر أسندمر كرجي فإن الأمير كراي لما وصل بالعساكر المصرية إلى حمص وأقام بها على ما قرره السلطان معه وصل إليه الأمير منكوتمر الطباخي وكان السلطان كتب معه ملطفات إلى أمراء حلب بقبض نائبها أسندمر كرجي في الباطن وكتب في الظاهر لكراي وأسندمر كرجي بما أراده من عمل المصالح فقضى كراي شغله من حمص وركب وتهيأ من حمص وجد في السير جريمة حتى وصل إلى حلب في يوم ونصف فوقف بمن معه تحت قلعة حلب عند ثلث الليل الآخر وصاح‏:‏ يا لعلي وهي الإشارة التي رتبها السلطان بينه وبين نائب قلعة حلب‏.‏

فنزل نائب القلعة عند ذلك بجميع رجالها وقد استعدوا للحرب وزحف الأمير كراي على دار النيابة ولحق به أمراء حلب وعسكرها فسلم الأمير أسندمر كرجي نفسه بغير قتال فأخذ وقيد وسجن بقلعتها وأحيط على موجوده‏.‏

وسار منكوتمر الطباخي على البريد بذلك إلى السلطان‏.‏

ثم حمل أسندمر كرجي إلى السلطان صحبة الأمير بينجار وأيبك الرومي فخاف عند ذلك الأمير قرا سنقر نائب الشام على نفسه وسأل أن ينتقل من نيابة دمشق إلى نيابة حلب ليبعد عن الشر فأجيب إلى ذلك وكتب بتقليده وجهز إليه في آخر ذي الحجة من سنة عشر وسبعمائة على يد الأمير أرغون الدوادار الناصري وأسر له السلطان بالقبض عليه إن أمكنه ذلك‏.‏

وقدم أسندمر كرجي إلى القاهرة واعتقل بالقلعة وبعث يسأل السلطان عن ذنبه فأعاد جوابه‏:‏ ما لك ذنب إلا أنك قلت لي لما ودعتك عند سفرك‏:‏ أوصيك ياخوند‏:‏ لاتبق في دولتك كبشًا كبيرًا وأنشىء مماليكك ولم يبق عندي كبش كبير غيرك ‏"‏‏.‏

ثم قبض السلطان على طوغان نائب البيرة وحمل إلى السلطان فحبس أيامًا ثم أطلقه وولاه شد الدواوين بدمشق‏.‏

وفي مستهل سنة إحدى عشرة وسبعمائة وصل الأمير أرغون الدوادار إلى الشام لتسفير قراسنقر المنصوري منها إلى نيابة حلب فاحترس منه الأمير قراسنقر على نفسه وبعث إليه عدة من مماليكه يتلقونه ويمنعون أحدًا ممن جاء معه أن ينفرد مخافة أن يكون معه ملطفات إلى أمراء دمشق‏.‏

ثم ركب قراسنقر إليه ولقيه بميدان الحصى خارج دمشق وأنزله عنده بدار السعادة ووكل بخدمته من ثقاته جماعة‏.‏

فلما كان من الغد أخرج له أرغون تقليده فقبله وقبل الأرض على العادة وأخد في التجهيز ولم يدع قراسنقر أرغون أن ينفرد عنه بحيث إنه أراد زيارة أماكن بدمشق فركب معه قراسنقر بنفسه حتى قضى أرغون أربه وعاد وتم كذلك إلى أن سافر‏.‏

فلما أراد قراسنقر السفر بعث إلى الأمراء ألا يركب أحد منهم لوداعه وألا يخرج من بيته واستعد وقدم أثقاله أولًا في الليل فلما أصبح ركب يوم الرابع من المحرم بمماليكه وعدتهم ستمائة فارس أرغون الموادار بجانبه وبهادر آص في جماعة قليلة وسار معه أرغون حتى أوصله إلى حلب‏.‏

ثم عاد أرغون إلى دمشق وقلد الأمير كراي المنصوري نيابة الشام عوضًا عن قراسنقر وأنعم كراي على أرغون الدوادار بألف دينار سوى الخيل والخلع وغير ذلك‏.‏

ثم إن الملك الناصر عزل الأمير بكتمر الحسامي عن الوزارة وولاه حجوبية الحجاب بالديار المصرية عوضًا عن سنقر الكمالي‏.‏

ولا زال السلطان يتربص في أمر بكتمر الجوكندار النائب حتى قبض عليه بحيلة دبرها عليه في يوم الجمعة سابع عشر جمادى الأولى من سنة إحدى عشرة وسبعمائة وقبض معه على عدة من الأمراء منهم‏:‏ صهر الجوكندار الكتمر الجمدار وأيدغدي العثماني ومنكوتمر الطباخي وبدر الدين بكمش الساقي وأيدمر الشمسي وأيدمر الشيخي وسجنوا الجميع إلا الطباخي فإنه قتل من وقته‏.‏

والحيلة التي دبرها السلطان على قبض بكتمر الجوكندار أنه نزل السلطان إلى المطعم وبكتمر بإزائه فخرج السلطان من البرج ومال إلى بكتمر وقال‏:‏ ياعمي ما بقي في قلبي من أحد إلا فلان وفلان وذكر له أميرين فقال له بكتمر‏:‏ يا خوند ما تطلع من المطعم إلا وتجدني قد أمسكتهما وكان ذلك يوم الثلاثاء فقال له السلطان‏:‏ لا يا عمي إلا دعهما إلى يوم الجمعة تمسكهما في الصلاة فقال له‏:‏ السمع والطاعة‏.‏

ثم إن السلطان جهز لبكتمر تشريفًا هائلًا ومركوبًا معظمًا فلما كان يوم الجمعة قال له في الصلاة‏:‏ والله يا عمي ما لي وجه أراهما وأستحي منهما ولكن أمسكهما إذا دخلت أنا إلى الدار وتوجه بهما إلى المكان الفلاني تجد هناك منكلي بغا وقجماس فسلمهما إليهما ورح أنت فأمسكهما بكتمر الجوكندار وتوجه بهما إلى المكان المذكور له فوجد الأميرين‏:‏ قجماس ومنكلي بغا هناك فقاما إليه وقالا له‏:‏ عليك السمع والطاعة لمولانا السلطان وأخذا سيفه فقال لهما‏:‏ يا خشداشيتي ما هو هكذا الساعة كما فارقت السلطان وقال لي‏:‏ أمسك هؤلاء فقالا‏:‏ ما القصد إلا أنت فأمسكاه وأطلقا الأميرين وكان ذلك آخر العهد ببكتمر الجوكندار كما يأتي ذكره‏.‏

انتهى‏.‏

ئم أرسل السلطان استدعى الأمير بيبرس الدوادار المنصوري المؤزخ وولاه نيابة السلطنة بديار مصر عوضًا عن بكتمر الجوكندار‏.‏

ثم أرسل السلطان قبض أيضًا على الأمير كراي المنصوري نائب الشام بدار السعادة في يوم الخميس ثاني عشرين جماس الأولى وحمل مقيدًا إلى الكرك فحبس بها وسبب القبض عليه كونه كان خشداش بكتمر الجوكندار ورفيقه‏.‏

ثم قبض السلطان على الأمير قطلوبك نائب صفد بها وكان أيضًا ممن وافق بكتمر على الوثوب مع الأمير السلطان على الأمير قطلوبك نائب صفد بها وكان أيضًا ممن وافق بكتمر على الوثوب مع الأمير موسى حسب ما تقدم ذكره‏.‏

ثم خلع السلطان على الأمير آقوش الأشرفي نائب الكرك باستقراره في نيابة دمشق عوضًا عن كراي المنصوري واستقر بالأمير بهادر آص في نيابة صفد عوضًا عن قطلوبك‏.‏

ثم نقل السلطان بكتمر الجوكندار النائب وأسندمر كرجي من سجن الإسكندرية إلى سجن الكرك فبقي بسجن الكرك جماعة من أكابر الأمراء مثل‏:‏ بكتمر الجوكندار وكراي المنصوري وأسندمر كرجي وقطلوبك المنصوري نائب صفد وبيبرس العلائي في آخرين‏.‏

ثم عزل السلطان مملوكه أيتمش المحمدي عن نيابة الكرك واستقر في نيابتها تيبغا الأشرفي وكان السلطان قد استناب أيتمش هذا على الكرك لما خرج منها إلى دمشق‏.‏

وأما قراسنقر فإنه أخذ في التدبير لنفسه خوفًا من القبض عليه كما قبض على غيره واصطنع العربان وهاداهم وصحب سليمان بن مهنا وآخاه وأنعم عليه وعلى أخيه موسى حتى صار الجميع من أنصاره‏.‏

وقدم عليه الأمير مهنا إلى وأقام عنده أيامًا وأفضى إليه قراسنقر بسره وأوقفه على كتاب السلطان بالقبض على مهنا وأنه لم يوافق على ذلك‏.‏

ثم بعث قراسنقر يسأل السلطان في الإذن له في الحج فجهز قراسنقر حاله وخرج من حلب في نصف شوال ومعه أربعمائة مملوك واستناب بحلب الأمير قرطاي وترك عنده عدة من مماليكه لحفظ حواصله فكتب السلطان لقرطاي بالاحتراس وألا يمكن قراسنقر من حلب إذا عاد ويحتج عليه بإحضار مرسوم السلطان بتمكينه من ذلك‏.‏

ثم كتب إلى نائب غزة ونائب الشام ونائب الكرك وإلى بني عقبة بأخذ الطريق على قراسنقر فقدم البريد أنه سلك البرية إلى صرخد وإلى زيزاء ثم كثر خوفه من السلطان فعاد من غير الطربق التي سلكها ففات أهل الكرك القبض عليه فكتبوا بالخبر إلى السلطان فشق عليهم وصل قراسنقر إلى ظاهر حلب فبلغه ماكتب السلطان إلى قرطاي فعظم خوفه وكتب إلى مهنا فكتب مهنا إلى قرطاي أن يخرج حواصل قراسنقر وإلا هجم مدينة حلب وأخذ ماله قهرًا فخاف قرطاي من ذلك وجهز كتابه إلى السلطان في طي كتابه وبعث بشيء من حواصل قراسنقر إلى السلطان مع ابن قراسنقر الأمير عز الدين فرج فأنعم عليه الملك الناصر بإمرة عشرة وأقام بالقاهرة مع أخيه أمير علي بن قراسنقر‏.‏

ثم إن سليمان بن مهنا قدم على قراسنقر فأخذه ومضى وأنزله في بيت أمه فاستجار قراسنقر بها فأجارته ثم أتاه مهنا وقام له بما يليق به‏.‏

ثم بعث مهنا يعرف السلطان بما وقع لقراسنقر وأنه استجار بأم سليمان فأجارته وطلب من السلطان العفو عنه فأجاب السلطان سؤاله وبعث إليه أن يخير قراسنقر في بلد من البلاد حتى يوليه إياها فلما سافر قاصد مهنا وهو ابن مهنا لكنه غير سليمان جهز السلطان تجريدة هائلة فيها عدة كثيرة من الأمراء وغيرهم إلى جهة مهنا فاستعد مهنا‏.‏

وكتب قراسنقر إلى الآفرم نائب طرابلس يستدعيه إليه فأجابه ووعده بالحضور إليه‏.‏

ثم بعث قراسنقر ومهنا إلى السلطان وخدعاه وطلب قراسنقر صرخد فانخدع السلطان وكتب له تقليدًا بصرخد وتوجه إليه بالتقليد أيتمش المحمدي فقبل قراسنقر الأرض واحتج حتى يصل إليه ماله بحلب ثم يتوجه إلى صرخد فقدمت أموال قراسنقر من حلب فما هو إلا أن وصل إليه ماله وإذا بالأفرم قد قدم عليه من الغد ومعه خمسة أمراء من أمراء طبلخاناه وست عشراوات في جماعة من التركمان فسر قراسنقر بهم ثم استدعوا أيتمش وعددوا عليه من قتله السلطان من الأمراء وأنهم خافوا على أنفسهم وعزموا على الدخول في بلاد التتار وركبوا بأجمعهم وعاد أيتمش إلى الأمراء المجردين بحمص وعرفهم الخبر فرجعوا عائدين إلى مصر بغير طائل‏.‏

وقدم الخبر على السلطان بخروج قراسنقر والأفرم إلى بلاد التتار في أول سنة اثنتي عشرة وسبعمائة وقيل إن الأفرم لما خرج هو وقراسنقر إلى بلاد التتار بكى الأفرم وأنشد‏:‏ الطويل سيذكرني قومي إذا جد جدهم وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر فقال له قراسنقر‏:‏ امش بلا فشار تبكي عليهم ولا يبكون عليك فقال الأفرم‏:‏ والله ما بي إلا فراق ابني موسى فقال قراسنقر‏:‏ أي بغاية بصقت في رحمها جاء منه موسى وإبراهيم وعدد أسماء كثيرة وتوجها‏.‏

انتهى‏.‏

ثم إن السلطان أفرج عن الأمير أيدمر الخطيري وأنعم عليه بخبز الأمير علم الدين سنجر الجاولي‏.‏

وفي أول سنة اثنتي عشرة وسبعمائة كملت عمارة الجامع الجديد الناصري بمصر القديمة على النيل ووقف عليه عدة أوقاف كثيرة‏.‏

وأما قراسنقر والأفرم فإنهما سارا بمن معهما إلى بلاد التتار فخرج خربندا ملك التتار وتلقاهم وترجل لهم وترجلوا له وبالغ في إكرامهم وسار بهم إلى مخيمه وأجلسهم معه على التخت وضرب لكل منهم خركاه ورتب لهم الرواتب السنية ثم استدعاهم بعد يومين واختلى بقراسنقر فحسن له قراسنقر عبور الشام وضمن له تسليم البلاد بغير قتال‏.‏

ثم اختلى بالأفرم فحن له أيضًا أخذ الشام إلا أنه خيله من قوة السلطان وكثرة عساكره‏.‏

ثم إن خربندا أقطع قراسنقر مراغة وأقطع الأفرم همذان واستمروا هناك إلى ما يأتي ذكره إن شاء الله تعالى‏.‏

ولما حضر من تجرد من الأمراء إلى الديار المصرية حضر معهم الأمير جمال الدين آقوش نائب الكرك الذي ولي نيابة الشام بعد كراي المنصوري فقبض السلطان عليه وعلى الأمير بيبرس الدوادار نائب السلطان صاحب التاريخ وعلى سنفر الكمالي ولاجين الجاشنكير وبينجار وألدكز الأشرفي ومغلطاي المسعودي وسجنوا بالقلعة في شهر ربيع الأول سنة اثنتي عشرة وسبعمائة وذلك لميلهم إلى قراسنقر والأفرم‏.‏

ثم خلع السلطان على تنكز الحسامي الناصري بنيابة دمشق دفعة واحدة عوضًا عن آقوش نائب الكرك وتنكز هذا هو أول من رقاه من مماليكه إلى الرتب السنية‏.‏

ثم استقر بسودي الجمدار في نيابة حلب واستقر تمر الساقي المنصوري في نيابة طرابلس‏.‏